انبنى اختيار قيادة الرابطة تاريخيا على المحاصصة السياسية التي كانت عائقا في بعض الحالات ومحفّزا في الكثير من الحالات الأخرى خصوصا عندما تحتدم المواجهة مع السلطة
رغم الانخراط في الحركة الحقوقية العالمية وإدراكها لأهمية التضامن الدولي فإنّ الرابطة تميّز جيّدا بين مبدأ التضامن والتدخل الخارجي في الشأن الداخلي وتعتبر السيادة الوطنية خطا احمر.
يتحدث الجميع اليوم، الرابطيون وخصوم الرابطة عن دورها ومكانتها وهو ما يؤكد أنها بالفعل بمثابة حالة وجدانية وجزء من رصيد هذا الشعب وهذا الوطن وهو ما يضاعف مسؤولية القيادة الراهنة.
تحيي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان هذه الأيام الذكرى السادسة والأربعين لتأسيسها ذات 14 ماي 1976 وحصولها على التّأشيرة القانونيّة بعد سنة، وتحديدا في 7 ماي 1977 بمبادرة من عدد من الشخصيات الوطنية والديمقراطية، وكانت أول جمعية من نوعها في إفريقيا والعالم العربي وكان لها دور كبير في نشأة جمعيات شبيهة في دول الجوار وفي تطوير الحركة الحقوقية العربية والإفريقية والدولية.
اليوم، يمكن القول أن الاحتفال ليس عاديا للعديد من الأسباب والاعتبارات، أوّلها أن الاحتفال يتمّ تحت قيادة جديدة وهيئة مديرة، شابة في أغلبها منبثقة عن المؤتمر الوطني الثامن المنعقد أيام 11، 12 و13 نوفمبر 2022.
ثانيا، يتم الاحتفال في المقرّ الجديد للرابطة وسط العاصمة، وهذا إنجاز يُحسب للهيئة السابقة وللرئيس الشرفي جمال مسلّم الذي غادر قيادة المنظمة في ظرف صعب وترك في رصيدها جملة من المشاريع والشراكات وأمّن المؤتمر في حدّ ذاته وحصّنه ضد انحراف كان بالإمكان أن يعصف بها، وكما هو معلوم فإن المقرّات والجوانب اللوجستية والموارد المادية والبشرية هي شريان الحياة في العمل المدني والسياسي على حد السواء وهي سلاح ذو حدّين خصوصا إذا فرّط “القادة” في استقلال القرار.
ثالثا، تحتفل الرابطة بعيد ميلادها ورئيسها مطلوب للعدالة، أجل لقد وقع استدعاء الرئيس بسام الطريفي على سبيل الاسترشاد لدى فرقة مكافحة الإرهاب للحرس الوطني وارتأت الهيئة المديرة أن الموقف المناسب هو عدم الامتثال لهذا الاستدعاء.
رابعا، وحسب ما تمخّض عن المجلس الوطني الأوّل بعد المؤتمر الثامن من قراءة للواقع وتحديدا للموقف منه والأولويات الملقاة على عاتق الرابطة ومجمل الحركة الحقوقية في تونس، وكذلك البيان الصادر أمس السبت 6 ماي عن الهيئة المديرة بمناسبة ذكرى التأسيس تحت عنوان ” الرابطة قلعةٌ للدفاع عن كل الحقوق لكل الناس”، فان هذه الذكرى تعيد إلى الأذهان سياق سبعينات القرن الماضي وحتى الثمانينات والتسعينات وسنوات الـ2000 ، وقبل ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة وبعدها، فالملاحظ هو “انسداد الأفق السياسي وتعمّق الأزمة واتساع الهوة بين مكونات السلطة التنفيذية وباقي مكونات المجتمع”.
وقد نبّهت الرابطة بعد 25 جويلية 2021 من “خطورة الانحراف نحو حكم رئاسوي فردي يتنافى ومبادئ الحكم التشاركي” وندّدت كذلك بالمراسيم الماسّة بالحقوق الأساسية ورفضت الإجراءات الرامية إلى تطويع القضاء إلى جانب الامتعاض لشديد ممّا يتمّ رصده من تضييق يستهدف الإعلاميين والمدوّنين والنقابيين والمحامين وخاصّة الإيقافات التي شملت شخصيات معارضة لمسار 25 جويلية تحت غطاء قانون الإرهاب حسب البيان.
وفي نفس السياق، سجل المجلس الوطني بدوره “تواصل استهداف مقومات الدولة المدنية والديمقراطية والإمعان في تركيز الحكم الفردي المطلق”..
خامسا، إن أخطر ما يسجّله الحقوقيون عموما والرابطة بشكل خاص هو “التضييق الممنهج على حرية الرأي والتعبير” كما جاء في بياني المجلس الوطني وذكرى التأسيس، والذي بلغ ذروته بتفعيل المرسوم عدد 54 لسنة 2022 والذي “توسّعت بموجبه التتبعات القضائية والهرسلة الأمنية للمجتمع المدني والصحفيين والمدونين والمحامين وكل المشاركين في الاحتجاجاات السلمية”.
ليس ذلك فحسب تحتفل الرابطة – سادسا – بعيد ميلادها في ظل مناخ تقول انه تم فيه ضرب القضاء والسعي لتوظيفه لتصفيه المعارضين والخصوم السياسيين ومحاكمه المدنيين أمام القضاء العسكري مع تواصل سياسة الإفلات من العقاب والتردد والتباطؤ في محاسبه الفاسدين.
سابعا، ورغم انخراط الرابطة في الحركة الحقوقية العربية والإفريقية والدولية وإدراكها لأهمية التضامن الدولي فإنها تميز جيدا بين مبدأ التضامن والتدخل الخارجي في الشأن الداخلي وتعتبر ان السيادة الوطنية خط احمر بالفعل والسيادة لا تُمسّ فقط بتصريحات ومواقف الساسة والمسؤولين والنشطاء في الدول الصديقة والشقيقة وإنما أيضا من خلال الارتهان بالديون مثلا وبالشراكات غير المتكافئه في ظل استمرار الأوضاع المعيشية الصعبة لعموم المواطنين.
هنا، تؤكّد الرابطة عزمها على مواصلة تبنّي كلّ القضايا العادلة في الداخل والخارج وفي صدارتها القضيّة الفلسطينية.
هذه تقريبا الصورة التي رسمتها الرابطة هذه الأيام والتي تُضاعف من مسؤوليتها وتحديدا مسؤولية قيادتها الشابة كما أسلفنا، المدعوة اليوم وأكثر من إي وقت مضى إلى العمل على الاستفادة من تراث الرابطة وتاريخها وتجارب قادتها الذين ساهموا في تحصين الحقوق والعقول بشكل جعل الرابطة شبيهة إلى حد ما بالاتحاد العام التونسي للشغل، صاحبة مكانة رمزية واعتبارية في وجدان التونسيين.
اجل، اليوم يتحدث الجميع، الرابطيون وخصوم الرابطة عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، دورها ومكانتها، وهو ما يؤكد أنها بالفعل بمثابة حالة وجدانية وجزء من رصيد هذا الشعب وهذا الوطن وهو ما يضاعف مسؤولية القيادة الراهنة.
لقد وجدت القيادة المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثامن نفسها في أتون معركة متعددة الأوجه، معركة ترتيب البيت الداخلي أولا وقد يكون توفير المقر الجديد فرصة ايجابية لتعزيز العمل وتنظيمه في المستقبل، وثانيا الانخراط في معارك الوطن مع الشركاء في المجتمع المدني والسياسي.
وهنا يطرح السؤال عن موقع الرابطة ودورها فيما صار يعرف بالحوار الوطني والمبادرة التي تحولت بقدرة قادر من مبادرة للإنقاذ إلى مبادرة لتونس المستقبل والحال أن أراء جديرة بالاهتمام لم تكن ترى ضرورة في تكرار تجربة الحوار لان التاريخ لا يعيد نفسه دون أن ننسى أنه إلى جانب انخرام موازين القوى، فإن المنظمات الثلاث الأخرى لها حساباتها ولها أوضاعها الداخلية التي هي ليست على ما يرام ولها أيضا اختصاصاتها القطاعية والمطلبية.
تقول القيادة في بيانها بمناسبة ذكرى التأسيس أن شرف الرابطة والرابطيين “ليس في القدرة على الصمود في وجه التحديات فحسب، وإنما كذلك في نشر ثقافة حقوق الإنسان لدى مختلف الأوساط، ورصد الانتهاكات والدفاع عن ضحاياها باختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية” وهو ما خوّل لها أن تكون “إحدى المكونات الأساسية في المشهد السياسي والجمعياتي في الداخل والخارج خلال كامل الفترة التي تلت تأسيسها وخاصّة بعد ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي.”
ماذا نريد إذن من الرابطة بعد أربعة عقود ونيف من تأسيسها ؟.
نريد رابطة مستقلة مناضلة مهيكلة متجذرة في محيطها فعّالة داخل حركة حقوق الإنسان في الداخل والخارج.
لقد انبنى الانخراط في الرابطة على قاعدة النضال وعلى قاعدة الخصومة مع السلطة صراحة وقد كان للتكوين السياسي مكانه أيضا وللروح النضالية أيضا والالتزام بالعمل العام والتطوع دور هام في صمود الرابطة وانتصارها في معركة البقاء وفي معركة إحراج السلطة لكننا اليوم أمام ضعف الثقافة الديمقراطية والتكوين السياسي صراحة، لا مناص من الاهتمام بتطوير الكفاءات وتسليحها بثقافة حقوق الإنسان وتمليكها كل أدوات الرصد والتعبئة للدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الوعي بها.
ان حقوق الإنسان غير قابله للتجزئة والنضال من اجل حقوق الإنسان لا يمكن فصله والمفاضلة فيه بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة ومن جهة ثانية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واليوم تتضاعف مسؤولية الرابطة في ظل الأزمة المركبة التي تعصف ببلادنا والتي تفرض على القيادة ان تكون في مستوى هذا التحدي بتطوير عملها وبالانفتاح على كل الكفاءات والطاقات الخلاقة التي يزخر بها المجتمع والتي لها استعداد وانتماء حقيقي لحقوق الانسان.
لقد انبنت الرابطة تاريخيا على السياسة وكان اختيار هيئتها القيادية يتم بناء على المحاصصة السياسية بالفعل وكانت هذه المحاصصة عائقا في بعض الحالات لكنها محفّزا في الكثير من الحالات الأخرى خصوصا عندما تحتدم المواجهة مع السلطة ويجد أبناء الرابطة من المحسوبين بالخصوص على السلطة أنفسهم في خندق المواجهة معها لان حقوق الإنسان لا تتجزأ بالفعل وهو الدرس الذي يجب أن يتلقّفه أنصار ومساندو 25 جويلية قبل غيرهم من الرابطين وان يفصلوا بين انتمائهم لحقوق الإنسان وانتمائهم لمشروع هلامي فيه كثير من المآخذ في علاقة بحقوق الإنسان بالذات.
مراد علالة / الصجافة اليوم، الأحد 7 ماي 2023
Leave Your Comment